سورة الأحزاب - تفسير روائع البيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحزاب)


        


{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)}
سورة الأحزاب:
[1] التبني في الجاهلية والإسلام:
التحليل اللفظي:
{اتق الله}: أي أثبت على تقوى الله ودم عليها، والتقوى لفظ جامع يراد منه فعلُ كلّ خير، واجتنابُ كل شر، وأصله من (الوقاية) بمعنى الحفظ والصيانة.
قال في (اللسان): التقوى، والإتّقاء، والتّقاة، والتّقيّة كله واحد، ورجل تقيّ: معناه يقي نفسه من العذاب والمعاصي بالعمل الصالح.
قال ابن الوردي:
واتّقِ اللَّهَ فتقوى اللَّهِ مَا *** جاورتْ قلبَ امرئٍ إلاّ وصَل
ليس كم يقطعُ طرقاً بطَلاً *** إنَما مَنْ يَتَّق اللَّهَ البطل
{الكافرين}: جمع كافر، وهو الجاحد لنعم الله، مشتق من (الكَفْر) وهو الستر، وكل من ستر شيئاً فقد كفره، ولهذا يسمّى الزارع (كافراً) لأنه يستر الحب في الأرض ومنه قوله تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ} [الحديد: 20] أي أعجب الزرّاع. ويسمى الليل كافراً لأنه يستر بظلامه الأشياء.
وفي الصحاح: والكافر: الليلُ المظلم لأنه يستر بظلمته كل شيء، وكفر النعمة جحدها.
وقال الجوهري: ومن ذلك سُمّي الكافر كافراً لأنه ستر نعم الله عز وجلّ، ونعمُه آياته الدالة على توحيده.
قال بعض العلماء: الكفر على أربعة أنحاء: كفر إنكار وهو أن لا يعرف الله أصلاً، ولا يعترف به، ويكفر بقلبه ولسانه.
وكفر جحود وهو أن يعترف بقلبه ولا يقرّ بلسانه، ككفر إبليس، وكفر أهل الكتاب {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} [البقرة: 89].
وكفر عناد وهو: أن يعترف بقلبه، ويقرّ بلسانه ولا يدين به حسداً وبغياً ككفر أبي جهل وأضرابه.
وكفر نفاق وهو: أن يقرّ بلسانه ويكفر بقلبه فلا يعتقد بما يقول وهو فعل المنافقين.
{والمنافقين}: جمع منافق وهو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، مشتق من (النَّفَق) وهو سَرَب في الأرض، والنافقاء: جُحْرُ الضبّ واليربوع، قال أبو عبيد: سمّي المنافق منافقاً للنّفق وهو السّرَب في الأرض، وقيل: إنما سُمّي منافقاً لأنه نافق كاليربوع وهو دخوله نافقاءه. فإذا طُلِبَ خرج من القاصعاء، فهو يدخل من (النافقاء) ويخرج من (القاصعاء) أو بالعكس، وهكذا يفعل المنافق يدخل في الإسلام ثمّ يخرج منه من غير الوجه الذي دخل فيه.
وقال في (اللسان): وقد تكرر في الحديث ذكر النفاق، وهو اسم اسلاميّ لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به، وهو الذي يستر كفره ويُظهر إيمانه، وإن كان أصله في اللغة معروفاً.
{وَكِيلاً}: الوكيل: الحافظ، الكفيل بأرزاق العباد، والمتوكل على الله: الذي يعلم أن الله كافل رزقه وأمره، فيركن إليه وحده، ولا يتوكل على غيره، وفي التنزيل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ} [الفرقان: 58] وتوكّلَ بالأمر إذا ضمن القيام به. والتوكل: اللجوء والاعتماد يقال: وكلتُ أمري إلى فلان أن ألجأته إليه، واعتمدت فيه عليه قال تعالى:
{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].
والمعنى: اعتمد على الله والجأ إليه، وكفى به حافظاً وكفيلاً.
قال أبو السعود: {وَتَوَكَّلْ على الله} أي فوّض جميع أمورك إليه {وكفى بالله وَكِيلاً} أي حافظاً موكلاً إليه كل الأمور.
{تظاهرون}: نزل القرآن الكريم والعرب يعقلون من هذا التركيب (ظاهر من زوجته) أنه قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي، وكانت العرب تطلّق نساءها في الجاهلية بهذه الكلمة، وكان الظّهار عندهم طلاقاً، فلما جاء الإسلام نُهوا عنه، وأُوجِبت الكفارة على من ظاهر من امرأته.
قال في (اللسان): وأصل الظّهار مأخوذ من الظَّهْر، وإنما خصّوا الظهر دون البطن والفخذ، لأنّ الظهر موضع الركوب، فكأنه قال: ركوبك للنكاح عليّ حرام كركوب أمي للنكاح، فأقام الظهر مقام الركوب، وهذا من لطيف الاستعارات للكناية.
{أَدْعِيَآءَكُمْ}: جمع دَعيّ، وهو الذي يُدعى ابناً وليس بابن، وهو النبي الذي كان في الجاهلية وأبطله الإسلام، وقد تبنّى عليه السلام (زيد بن حارثة) قبل النبوة لحكمة جليلة نبينها بعد إن شاء الله.
قال في (اللسان): والدّعي: المنسوب إلى غير أبيه، والدِّعوة بكسر الدال: أدّعاء الولد الدّعيّ غير أبيه، وقال ابن شُميل: الدَّعوة بالفتح في الطعام، والدِّعوة بالكسر في النسب.
وقد أنكر بعضهم هذه التفرقة.
وقال الشاعر:
دعيّ القوم ينصرُ مدّعيه *** ليُلحقه بذي النسب الصّميم
أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواه *** إذا افتخروا بقَيْسٍ أو تميم
{أَقْسَطُ}: بمعنى أعدل أفعل تفضيل، يقال: أقْسَط إذا عدل، وقَسَط إذا جار وظلم، فالرباعي (أقسط) يأتي اسم الفاعل منه (مُقْسِط) بمعنى عادل ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [الحجرات: 9] والثلاثي (قَسَط) يأتي اسم الفاعل منه (قاسط) بمعنى جائر ومنه قوله تعالى: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15] فكأن الهمزة في أقسط للسلب، كما يقال: شكا إله فأشكاه، أي أزال شكواه.
والقِسط: العدل قال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط} [الرحمن: 9].
{ومواليكم}: أي أولياؤكم في الدين، جمع مولى وهو الذي بينه وبين غيره حقوق متبادلة كما بين القريب وقريبه، والمملوك سيّده.
ومعنى الآية: فإن لم تعرفوا آباءهم أيها المؤمنون فهم إخوانكم في الدين، وأولياؤكم فيه، فليقل أحدكم: يا أخي، أو يا مولاي، يقصد بذلك الأخوّة والولاية في الدين.
{غَفُوراً}: يغفر ذنوب عباده، ويكفّر عنهم السيئات إذا تابوا {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى} [طه: 82].
{رَّحِيماً}: بعباده ومن رحمته أنه رفع الإثم عن المخطئ، ولم يؤاخذه على خطئه.
المعنى الإجمالي:
أمر الله تبارك وتعالى نبيّه الكريم بالتقوى واجتناب المحارم، وحذّره من طاعة الكفار والمنافقين، لأنهم اعداء الله ورسوله، وأعداء المؤمنين، لا يؤتمنون على شيء، ولا يستشارون في أمر، فظاهرهم غير باطنهم، وصورتُهم غير حقيقتهم، لذلك ينبغي الحذر منهم، وعدم الاستجابة لهم، والإعراض عنهم لأنهم فسقة خارجون عن طاعة الله عز وجلّ.
والخطاب وإن كان في صورته موجهاً للنبي عليه السلام، لكنّه في الحقيقة تعليم للأمة، وإرشاد لها؛ لتسلك طريق التقوى، وتعمل تهدي القرآن.
وقد استحدث أهل الجاهلية بدعاً غريبة، ومنكراتٍ كثيرة، زعموا أنّها من الدين، فنزل القرآن الكريم مبطلاً لهذه البدع، مغيّراً تلك الخرافات والأباطيل، بالحق الساطع، والبرهان القاطع، مقرراً الأمر على أساس المنطق السليم.
يقول الله تعالى ما معناه: يا أيها النبي تحل بالتقوى، وتمسّك بطاعة الله، ولا تطع أهل الكفر والنفاق فيما يدعونك إليه من اللين والتساهل وعدم التعرض لآلهتهم بسوء، فإنّ الله عالم بأحوال العباد، لا تخفى عليه خافية، واتّبْع ما يوحيه إليك ربك، من الشرع القويم، والدين الحكيم، ولا تخش وعيد أحدٍ من المشركين، فإنّ الله معك فتوكل عليه، والجأ في جميع أمورك إليه، فهو الحافظ والناصر. ثم ردّ تعالى مزاعم أهل الجاهلية، وما هم عليه من ضلالٍ وعنادٍ، فبيّن أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه، فكذلك لا يمكن أن تصبح الزوجة المظاهر منها أماً، ولا الولد المتبنّى ابناً، لأن الأم الحقيقية هي التي ولدته {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة: 2] والابن الحقيقي هو الذي جاء من صلب ذلك الرجل فلا يمكن لإنسان أن يكون له أبوان، فكيف يزعمون أنّ هؤلاء الزوجات أمهات!! وكيف يجعلون أبناء الآخرين أبناءً لهم، مع أنهم ليسوا من أصلابهم!!
ذلك هو محض الكذب والافتراء على الله، والله يقول الحق ويهدي إلى أقوم طريق.
ثم أمر تعالى بنسبة هؤلاء إلى آبائهم، لأنه أعدل وأقسط فقال: فإن لم تعرفوا- أيها المؤمنون- آباءهم، فهم إخوانكم في الدين، وأولياؤكم فيه، فليقل أحدكم: يا أخي ويا مولاي يقصد أخوّة الدين وولايته، وليس عليكم ذنب فيما أخطأتم به ولكنّ الذنب والإثم فيما تعمدت قلوبكم وكان الله غفوراً رحيماً، يغفر لعباده زلاتهم، ويتجاوز عن سيئاتهم.
سبب النزول:
روى المفسّرون في سبب نزول هذه الآيات الكريمة أسباباً عديدة نذكر أصحها وأجمعها:
أولاً: رُوي أنّ أبا سفيان بن حرب، وعكرمه بن أبي جهل، وأبا الأعور السّلمي، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموادعة التي كانت بينهم، فنزلوا على عبد الله بن أبيّ، ومُعتّب بن قُشَيْر، والجدّ بن قيس، فتكلموا فيما بينهم، وأتو رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعوه إلى أمرهم، وعرضوا عليه أشياء، وطلبوا منه أن يرفض ذكر (اللاَّت والعُزى) بسوء. وأن يقول: إنّ لها شفاعة، فكره صلى الله عليه وسلم ذلك، ونزلت هذه الآية: {يا أيها النبي اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين}.
ثانياً: وروي أنّ رجلاً من قريش يُدعى (جميل بن مَعْمَر الفِهْري) كان لبيباً، حافظاً لما سمع، فقالت قريش: ما حفظ هذه الأشياء إلاّ وله قلبان في جوفه، وكان يقول: إن لي قلبين أعقل بكلّ واحدٍ منهما أفضل من عقل محمد ، فلمّا كان يوم بدر، وهُزِم المشركون- وفيهم يومئذٍ جميل بن مَعْمر- تلقَّاه (أبو سفيان) وهو معلّق إحدى نعليه بيده، والأخرى في رجله، فقال له: ما حال الناس؟ فقال: انهزموا، قال: فما بال إحدى نعليك في يدك، والأخرى في رجلك؟
قال: ما شعَرْتُ إلاّ أنهما في رجليّ!!
فعرفوا يومئذٍ أنه لو كان له قلبان لما نسيَ نعله في يده فأنزل الله تعالى: {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ.
..} الآية.
ثالثاً: وروى السيوطي عن مجاهد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تبنّى (زيد بن حارثة) وأعتقه قبل الوحي، فلمذا تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش قال اليهود والمنافقون: تزوّج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عنها فنزل قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ}.
رابعاً: وروى البخاري في (صحيحه) عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ما كنّا ندعو (زيد بن حارثة) إلاّ زيد بن محمد، حتى نزلت الآية الكريمة: {ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله...}.
وجوه القراءات:
أولاً: قرأ الجمهور: {إنّ اللَّهَ بما تَعْملون} بتاء الخطاب، وقرأ أبو عمرو: {يعملون} بياء الغَيْبة، قال أبو حيّان: وعلى قراءة أبي عمرو يجوز أن يكون من باب الالتفات.
ثانياً: قرأ الجمهور: {اللاّئي تُظَاهرون منهنّ} بالهمز وياء بعدها، وقرأ (أبو عمرو) بياء ساكنة {واللايْ} بدلاً من الهمزة، وهي لغة قريش وقرأ (ورش) بياء مختلسة الكسرة.
ثالثاً: قرأ الجمهور: {تُظَاهرون منهنّ} بضم التاء، وفتح الظّاء، من ظاهر وقرأ (أبو عمرو) بشدّ الظاء: {تَظّاهرون} وقرأ هارون: {تَظْهَرون} بفتح التاء والهاء، وقد ذكر أبو حيّان في تفسيره (البحر المحيط) أنّ فيها تسع قراءات.
رابعاً: قرأ الجمهور: {وهو يَهْدي السّبيلَ} بفتح الياء مضارع هدى، وقرأ قتادة: {يُهَدِّي} بضم الياء وفتح الهاء وتشديد الدال.
وجوه الإعراب:
أولاً: قوله تعالى: {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ} جعل هنا بمعنى (خلق) فهي تنصب مفعولاً واحداً، بخلاف قوله: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ} فإنها بمعنى: (صيّر) تنصب مفعولين، وقوله: (من قلبين) مِنْ صلة (أي زائدة) و(قلبين) مفعول جعل، و(في جوفه) متعلق بجَعَل.
ثانياً: قوله تعالى: {والله يَقُولُ الحق}... الحقّ: منصوب لوجهين:
أحدهما: أن يكون مفعولاً ل (يقول).
والثاني: أن يكون صفة لمصدر محذوف تقديره: والله يقول القول الحق.
ثالثاً: قوله تعالى: {ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (ما) يجوز فيها وجهان: الجرّ بالعطف على (ما) في قوله تعالى: {فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ}.
والرفعُ على الابتداء وتقديره: ولكنْ ما تعمدت قلوبكم يؤاخذكم به.
لطائف التفسير:
اللطيفة الأولى: نادى الله تعالى نبيّه بلفظ النبوة: {يا أيها النبي} كما ناداه جلّ ثناؤه بوصف الرسالة {يا أيها الرسول} [المائدة: 41] ونداءُ اللَّهِ تعالى لنبيّه الكريم بلفظ (النبوة) أو وصف (الرسالة) فيه تعظيم لمقام الرسول صلى الله عليه وسلم وفيه إشارة إلى أفضليته عليه السلام على جميع الأنبياء. كما فيه تعليم لنا الأدب معه، فلا نذكره إلاّ بالإجلال والإكرام، ولا نصفه إلاّ بما يدل على التوقير والتعظيم {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً...} [النور: 63].
قال أبو حيان في تفسيره (البحر المحيط) ما نصُّه:
نداء النبي صلى الله عليه وسلم ب {يا أيها النبي}، {يا أيها الرسول} هو على سبيل التشريف والتكرمة، والتنويه بمحلّه وفضيلته، وجاء نداء غيره باسمه كقوله: يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم، يا موسى، يا داود، يا عيسى.. وحيث ذكره على سبيل الإخبار عنه بأنه رسوله، صرّح باسمه فقال: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله} [الفتح: 29] {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} [آل عمران: 144] أعلم أنّه رسوله، ولقّنهم أن يسمّوه بذلك.
وحيث لم يقصد الإعلام بذلك جاء اسمه كما جاء في النداء- يعني بوصف النبوة أو الرسالة- كقوله تعالى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] وقوله: {وَقَالَ الرسول يارب} [الفرقان: 30] وقوله: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6].
اللطيفة الثانية: فإن قيل: ما الفائدة في أمر الله تعالى رسوله بالتقوى، وهو سيّد المتقين؟!
فالجواب أنه أمرٌ بالاستدامة على التقوى كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ} [النساء: 136] أي أثبتوا على الإيمان، وقوله: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6] بمعنى ثبتنا على الصراط المستقيم.
وقيل: إن الأمر خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم موجه إليه في الظاهر. والمراد به أمته، بدليل صيغة الجمع التي ختمت بها الآية الكريمة: {إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}.
قال الإمام الفخر رحمه الله: الأمرُ بالشيء لا يكون إلاّ عند عدم اشتغال المأمور، بالمأمور به، إذ لا يصلُح أن يقال للجالس: اجلس، وللساكت: اسكت، والنبيّ عليه السلام كان متقياً لله فما الوجه فيه؟ فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنه أمر بالمداومة، فإنه يصح أن يقول القائلُ للجالس: اجلس هاهنا إلى أن أجيئك، ويقول الفائلُ للساكت: قد أصبتَ فاسكتْ تسلَمْ، أي دمْ على ما أنتَ عليه.
والثاني: أن النبيّ عليه السلام كلّ لحظة كان يزداد علمثه ومرتبتُه، فكان له في كل ساعة تقوى متجدّدة. فقوله: (اتق الله) يراد منه الترقي الدائم، فحاله فيما مضى كأنه بالنسبة إلى ما هو فيه ترك للأفضل، فناسب الأمر به صلى الله عليه وسلم بالتقوى.
اللطيفة الثالثة: السرّ في تقديم القلبين في قوله تعالى: {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ} على بقية الأمور التي كان يعتقد بها أهل الجاهلية، هو أنه بمثابة ضرب مثل، والمثلُ ينبغي أن يكون أظهر وأوضح فهناك أمور ثلاثة باطلة هي من مخلّفات الجاهلية، فكونُ الرجل له قلبان أمر لا حقيقة له في الواقع، وجعلُ (المُظَاهَر) منها أمّاً أو كالأم في الحرمة المؤبدة من أمر لا حقيقة له في الواقع، وجعلُ (المُظَاهَر) منها أمّاً أو كالأم في الحرمة المؤبدة من مخترعات الجاهلية، وجعل (المتبنّى) باناً في جميع الأحكام مما لا يقرّه شرع.
ولمّا كان أظهرَ هذه الأمور في البعد عن الحقيقة كونث الرجل له قلبان، قدّم الله جلّ ثناؤه ذلك، وضربه مثلاً للظهار، والتبني. فكأنّ الآية تقول: كما لا يكون لرجلٍ قلبان، لا تكون المظاهَرث منها أمّاً، ولا المتبنّى ابناً، والله أعلم بأسرار كتابه.
اللطيفة الرابعة: التنكير في قوله تعالى: {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ} وإدخال (مِنْ) على الجملة بعده في قوله (مِنْ قلبين) يفيد العموم والاستغراق، ومعنى الآية: ما خلقَ اللَّه لرجلٍ إطلاقاً، أي رجلٍ كان قلبين في جوفه. فهو نفي للشيء بطريق (التأكيد والاستغراق).
وذكرُ الجوف وإن كان من المعلوم أ ن ّ القلب لا يكون إلا بالجوف لزيادة التصوير في الإنكار، والتكذيب للمدّعى، فهو كقوله تعالى: {ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46].
فإذا سمع الإنسان ذلك، تصوّر لنفسه جوفاً يشتمل على قلبين. فسارع عقله إلى إنكاره.
اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: {ذلكم قَوْلُكُم بأفواهكم} فيه إشارة لطيفة إلى أنّ هذا القول مجرّد كلام صادر من الأفواه فقط، وليس له ظلّ من الحقيقة أو مصداق من الواقع. كما نقول: (هذا خبرٌ على ورق) أي ليس له وجود أو تطبيق.
قال الزمخشري: من المعلوم أنّ القول لا يكون إلا بالفم. فلماذا ذكر قوله: {بأفواهكم}؟ الجواب: أنّ فيه إ شارة إلى أنّ هذا القول. ليس له من الحقيقة والواقع نصيب. إنما هو مجرد إدعاء باللسان. وقول مزعوم باطل نطقت به شفاههم دون أن يكون له نصيب من الصحة والله أعلم.
اللطيفة السادسة: قوله تعالى: {والله يَقُولُ الحق} الآية.
قال الإمام الفخر: فيه إشارة إلى معنى لطيف. وهو أن العاقل ينبغي أن يكون قوله إما عن عقل. وإمّا عن شرع. وفي الدّعي (الولد المتبنّى) لم توجد الحقيقة. ولا ورد الشرع. فإنّ قولهم: هذه زوجة الابن المتبنّى فتحرم. والله تعالى يقول: هي لك حلال. فقولهم لا اعتبار به لأنه قول من الأفواه مجرد عن الحقيقة كأصوات البهائم، وقول الله حق فيجب اتباعه. وهو خير من أقوالكم التي عن قلوبكم. فكيف تكون نسبته إلى أقوالكم التي بأفواهكم!؟.
اللطيفة السابعة: صيغة (فعيل) في اللغة العربية تفيد المبالغة، فقوله تعالى: {وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 17] إنما يقصد به المبالغة، لأن الصيغة تقتضي ذلك، ففرق في التعبير بين قولك (عالم، وعليم، وعلاّم) فالأولى ليس فيها إلا إثبات العلم، وأما الثانية والثالثة ففيهما المبالغة، لأنّ (فعّال وفعيل) من صيغ المبالغة كما قال ابن مالك:
فَعَالٌ أو مِفْعَالٌ أو فَعُولُ *** في كَثْرةٍ عن فَاعِلٍ بديلُ
فيستحقّ مالَهُ منْ عَمَل *** وفي فَعِيلٍ قلّ ذا وفعِل
فالمراد في الآية الكريمة من لفظه (عليم) أنه جلّ جلاله قد أحاط علمه بكل الأشياء، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. و(الحكيم) المبالغ في الحكمة الذي تناهت حكمته فشملت الأمر العظيم والشيء اليسير وكل ما جاء على ذلك الوزن إنما يقصد به المبالغة فتدبره.
اللطيفة الثامنة: كانت العرب تزعم أنّ كل لبيبٍ أريب له في جوفه قلبان، وقد اشتهر (جميل بن مَعْمر) عند أهل مكة بذكائه وقوة حفظه، فكانوا يسمونه بذي القلبين، وكانوا يخصونه بالمديح في أشعارهم كما قال بعض الشعراء:
وكيفَ ثَوَائي بالمدينَةِ بعدَما *** قَضَى وَطْراً منها جميلُ بن مَعْمر
وكان هذا الجهول يقول: أنا أذكى من محمد وأفهم منه. فلمّا بلغته هزيمة بدر طاش لبه، وحدّث أبا سفيان بحديثٍ كان فيه كالمختل. وهو يحمل إحدى نعليه بيده، والأخرى يلبسها في رجله وهو لا يدري، فظهر للناس كذبه. وافتضح على رؤوس الأشهاد أمره.
اللطيفة التاسعة: قوله تعالى: {هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله}.. أفعل التفضيل ليس (على بابه) لأنّ نسبتهم إلى غير آبائهم ظلم وعدوان، فلا يقصد إذن التفضيل وإنما يقصد به الزيادة مطلقاً.
والمعنى: دعاؤهم لآبائهم بالغ في العدل والصدق نهايته. وهو القسط والعدل في حكم الله تعالى وقضائه.. وجوّز بعضهم أن يكون (على بابه) جارياً على سبيل التهكّم بهم. والمعنى: دعاؤهم لغير آبائهم إذا كان فيه خير وعدل فهذا أقسط وأعدل ويكون ذلك جارياً مجرى التهكم والله أعلم.
الأحكام الشرعية:
الحكم الأول: هل تقع المعصية من الأنبياء؟
من المعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصومون عن ارتكاب الذنوب والمعاصي. فإنّ (العصمة) من صفاتهم. فلا يمكن أن تقع معصية من الأنبياء أو تحصل منهم مخالفة لأوامر الله عز وجلّ. لأنهم القدوة للخلق وقد أُمِرْنا باتّباعهم. فلو جاز عليهم الوقوع في المعصية لأصبحت طاعتهم غير واجبة أو أوصبحنا مأمورين باتباعهم في الخير والشر. لذلك عصمهم الله من الذنوب والآثام، فكل ما ورد في القرآن الكريم مما ظاهره يخالف (عصمة الأنبياء) فلا بدّ من فهمه على الوجه الصحيح حتى لا يتعارض مع الأصل العام. فقوله تعالى هنا: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} لا يفهم منه أنه صلى الله عليه وسلم مال إلى طاعتهم، أو أحبّ موافقتتهم على ما هم عليه من نفاقٍ وضلال. وإنما هو تحذيرٌ للأمة جاء في صورة خطابٍ للرسول عليه السلام ومما يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} حيث جاء بصثغة الجمع وقد عرفت ما فيه.
الحكم الثاني: هل الظهارمحرّم في الشريعة الإسلامية؟
دلت الآيات الكريمة على أن الظهار كان من العادات المتّبعة في الجاهلية وكان من أشدّ أنواع الطلاق.
حيث تثبت به (الحرمة المؤبدة) وتصبح الزوجة المظاهَرُ منها- في اعتقادهم- أماً كالأم من النسب، فأبطل الإسلام ذلك، واعتبره بهتاناً وضلالاً، وحرّم الظهار ولكنه جعل حرمته مؤقتة إلى أن يكفّر عن ظهاره. قال تعالى: {الذين يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة: 2] فالظهار في الإسلام منكر ولكن له كفارة يتخلص بها الإنسان من الإثم، وستأتي أحكام الظهار مفصّلة إن شاء الله عند تفسير سورة المجادلة.
الحكم الثالث: هل يجوز التبني في الإسلام؟
كما أبطل الإسلام الظهار أبطل (التبني) وجعله محرماً في الشريعة الإسلامية لأن فيه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ادّعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله تعالى منه صَرْفاً ولا عدلاً».
وجاء في الحديث الصحيح: «ليس من رجلٍ ادّعى لغير أبيه وهو يعلم إلاّ كفر».
وقال صلى الله عليه وسلم: «من ادّعى إلى غير أبيه- وهو يعلم أنه غير- فالجنة عليه حرام».
قال في (تفسير روح المعاني): وظاهر الآية حرمة تعمد دعوة الإنسان لغير أبيه، ولعلّ ذلك فيما إذا كانت الدعوة على الوجه الذي كان في الجاهلية.. وأما إذا لم يكن كذلك كما يقول الكبير للصغير على سبيل (التحنن والشفقة) يا ابني، وكثيراً ما يقع ذلك فالظاهر عدم الحرمة.
وقال (ابن كثير) في تفسيره: فأما دعوة الغير ابناً على سبيل التكريم والتحبُّب، فليس مما نهي عنه في هذه الآية بدليل ما روي عن (ابن عباس) رضي الله عنهما قال: قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على جمرات لنا من جمع، فجعل يلطخ أفخاذنا ويقول: أُبَيْنِيّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس.
كما نادى النبي صلى الله عليه وسلم أنساً فقال له: يا بنيّ.
الحكم الرابع: ما المراد بالخطأ والعمد في الآية الكريمة؟
نفى الله سبحانه وتعالى الجُناح (الإثم) عمن أخطأ، وأثبته لمن تعمّد دعوة الرجل لغير أبيه وقد اختلف المفسرون في المراد من (الخطأ والعمد) في الآية الكريمة على قولين:
أ- ذهب (مجاهد) إلى أنّ المراد بالخطأ هنا ما كان قبل ورود النهي والبيان، والعمد ما كان بعد النهي والبيان.
ب- وذهب (قتادة) إلى أن الخطأ هنا ما كان من غير قصد فقد أخرج (ابن جرير) عن قتادة أنه قال في الآية: لو دعوت رجلاً لغير أبيه، وأنت ترى أي (تظنّ) أنه أبوه، لم يكن عليك بأس، ولكن ما تعمّدت وقصدتَ دعاءه لغير أبيه أي فعليك فيه الإثم.
فعلى الرأي الأول يكون المراد بالخطأ الذي رفع عنهم فيه الإثم هو تسميتهم (الأدعياء) أبناء قبل ورود النهي. وأنّ العمد الذي ثبت فيه الإثم هو ما كان بعد ورود النهي، ويصبح معنى الآية: ليس عليكم إثم أو حرج فيما فعلتموه بعد الإسلام، وبيان الأحكام.
وعلى الرأي الثاني يكون المراد بالخطأ ما وقع منهم عن غير قصد أو تعمد، والعمد ما كان عن إصرار وقصح، ويصبح معنى الآية: ولا جناح عليكم فيما سبق إليه اللّسان على سبيل الغلط من نسبة الإنسان إلى غير أبيه بطريق الخطأ أو النسيان، وأمّا ما تقصّدتم نبته إلى غير أبيه مع علمكم بأنّ هذا الولد من غيره فعليكم الإثم والحرج.
وقد رجّح أبو حيّان في تفسيره (البحر المحيط) الرأي الثاني، وضعّف الأول وقال: (قوله تعالى: {فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ} قيل: المراد به رفع الحرج عنهم فيما كان قبل النهي، وهذا ضعيف، لا يوصف بالخطأ ما كان قبل النهي.
وقيل: فيما سبق إليه اللسان، إمّا على سبيل الغلط، أو على سبيل التحنّن والشفقة، إذ كثيراً ما يقول الإنسان للصغير: يا بني، كما يقول للكبير: يا أبي على سبيل التوقير والتعظيم).
الحكم الخامس: ما هو حكم الاستلحاق في الشريعة الإسلامية؟
الاستلحاق الذي أباحه الإسلام، ليس من التبنّي المحرم المنهيّ عنه في شيء، فإنّ من شرط الحلّ في الاستلحاق الشرعي أن يعلم (المستلحق) بكسر الحاء أنّ (المستلحَق) بفتح الحاء ابنه. أو يظنّ ذلك ظناً قوياً، وحينئذٍ شرع له الإسلام استلحاقه. وأحلّه له. وأثبت نسبه منه. بشروط مبينة في كتب الفقه. أمّا التبنّي المنهيّ عنه فهو دعوى الولد مع القطع بأنه ليس ابنه، وأين هذا من ذاك؟
الحكم السادس: هل يباح قول: يا أخي أو يا مولاي؟
ظاهر الآية الكريمة: {فَإِن لَّمْ تعلموا آبَاءَهُمْ فإخوانكم فِي الدين ومواليكم} أنه يباح أن يقال في دعاء من لم يُعْرف أبوه: يا أخي، أو يا مولاي، إذا قصد الأخوّة في الدين، والولاية فيه، لا أخوّة النسب وقرابته، فإن الله تعالى جعل المؤمنين إخوة {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ومعلوم أنه لا يراد بها أخوّة النسب فدلّ على جواز قول المسلم: هذا أخي يقصد بها أخوّة الإسلام وقرابة الدّين.
وخصّ بعض العلماء ذلك بما إذا لم يكن المدعوّ فاسقاً. وكان دعاؤه ب (يا أخي) أو (يا مولاي) تعظيماً له فإنه يكون حراماً، لأننا نُهينا عن تعظيم الفاسق، فمثل هذا يُدْعى باسمه، أو بقولك: يا عبد الله، أو يا هذا، ففي الحديث الشريف (لا تقولوا للمنافق يا سيّد، فإنه إن يك سيّداً فقد إغضبتم ربكم).
ما ترشد إليه الآيات الكريمة:
أولاً- تقوى الله عز وجل زاد المؤمن. ووصية الله في الأولين والآخرين.
ثانياً- من شروط الإيمان التوكل على الله، والالتجاء إليه في جميع الأحوال والأوقات.
ثالثاً- الخرافات والأساطير ليس لها وجود في شريعة الإسلام ولذلك حذّر الإسلام منها.
رابعاً- ادعاء أنّ الرجل الأريب اللبيب له في جوفه قلبان دعوى باطلة مخالفة للشرع والعقل.
خامساً- الاعتقاد بأن الزوجة (المظاهَر منها) تصبح أماً من مزاعم الجاهلية الجهلاء.
سادساً- حرمة (التبنّي) في الإسلام، ووجوب دعوة الأبناء ونسبتهم إلى آبائهم.
سابعاً- جواز قول الإنسان يا (أخي) ويا (مولاي) إذا قصد أخوّة الدين وولايته.
ثامناً- الله تعالى رحيم لا يؤاخذ العبد على ما صد منه عن خطأ بل يعفو عنه ويغفر.
خاتمة البحث:
حكمة التشريع:
بدعة التبني في الجاهلية:
أشرقت شمس الإسلام على الإنسانية، والمة العربية لا تزال تتخبّط في ظلمات الجاهلية، وتعيش في ضلالات وأوهام، وتعتقد بخرافات وأساطير ما أنزل الله بها من سلطان، هي من بقايا مخلّفات (العصر الجاهلي) التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم.
وما كان الإسلام ليتركهم في ضلالهم يتخبَّطون، وفي سَكْرتهم يعمهون دون أن ينقذهم مما هم فيه من سفهٍ، وجهالة، وكفر، وضلالة!!
فكان من رحمة الله تعالى أن أنتشل الأمة العربية، من أوحال الجاهلية. وخلّصها من تلك العقائد الزائغة، والأوهام الباطلة، وغذاها بلَبَان الإيمان، حتى أصبحت خير أُمّة أُخْرجت للناس.
ولقد كانت (بدعة التبنّي) من أظهر بدع الجاهلية، وتفشّت هذه البدعة حتى أصبحت ديناً متوارثاً، لا يمكن تعطيله أو تبديله لأنه دين الآباء والأجداد، {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23].
كان العربي في الجاهلية. يتبنّى الرجل منهم ولد غيره، فيقول له: (أنتَ ابني أرثك وترثني) فيصبح ولده وتجري عليه أحكام البنوّة كلها. من الإرث، والنكاح، والطلاق، ومحرمات المصاهرة، وغير ذلك مما يتعلق بأحوال الابن الصلبي على الوجه الشرعي المعروف.
ولحكمةٍ يريدها الله عزّ وجلّ ألهم نبيّه الكريم- قبل البعثة والنبوة- أن يتبنى أحد الأبناء. جرياً على عادة العرب في التبني. ليكون ذلك تشريعاً للأمة في إنهاء التبني. وإبطال تلك البدعة المنكرة، التي درج عليها العرب ردحاً طويلاً من الزمن.
فتبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد الأبناء، هو (زيد بن حارثة) وأصبح الناس منذ ذلك الحين يدعونه (زيد بن محمد) حتى نزل القرآن الكريم بالتحريم فتخلّى الرسول صلى الله عليه وسلم عن تبنّيه، وعاد نسبه إلى أبيه فأصبح يدعى زيد بن حارثة بن شرحبيل.
أخرج البخاري ومسلم في (صحيحهما) عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: إنّ زيد بن حارثة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ما كنّا ندعوه إلاّ زيد بن محمد، حتى نزل القرآن: {ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت زيد بن حارثة بن شرحبيل».
أما سبب تبنّيه عليه السلام لزيد قبل البعثة- مع كراهته الشديدة لعادات الجاهلية- فهو لحكمةٍ يريدها الله، ولقصةٍ من أروع القصص حدثت معه عليه الصلاة والسلام.
وخلاصة القصة: أنّ زيداً كان مع أمه عند أخواله من بني طي، فأغارت عليهم قبيلة من قبائل العرب، فسلبتهم أموالهم وذراريهم- على عادة أهل الجاهلية في السلب والنهب- فكان زيد من ضمن من سُبي فقدموا به مكة فباعوه، فاشترته السيدة (خديجة بنت خويلد) فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم أُعْجِبَ بنبوغه وذكائه، فوهبته له فبقي عند رسول الله عليه السلام يخدمه ويرعى شؤونه.
وكان أبوه (حارثة بن شرحبيل) بعد سبيه يبكي عليه الليل والنهار، وينشد فيه الأشعار، وقد ذكر العلامة القرطبي قصيدةً طويلة من شعر حارثة في الحنين لولده مطلعها:
بكيتُ على زيدٍ ولم أدرِ ما فعل *** أحيٌ يُرَجّى أم أتى دونه الأجلُ
تُذكّرُنِيْهِ الشمسُ عند طُلوعِها *** وتَعْرضُ ذِكْراه إذا غرْبُها أفل
وبلغ (حارثةَ) الخبرُ بأنّ ولده عند محمد صلى الله عليه وسلم في مكة، فقدم مع عمه، حتى دخل على رسول الله، فقال يا محمد: إنكم أهل بيت الله، تفكّون العاني وتطعمون الأسير، ابني عندك فامنن علينا فيه، وأحسن إلينا في فدائه، فإنك ابن سيّد قومه، ولك ما أحببت من المال في فدائه!!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطيكم خيراً من ذلك، قالوا ما هو؟ قال: أخيّره أمامكم، فإن اختاركم فهو لكم بدون فداء، وإن اختارني فما أنا بالذي أرضى على من اختارني فداءً، فقالوا: أحسنتَ فجزاك الله خيراً.
فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا زيد: أتعرف هؤلاء؟ قال: نعم، هذا أبي، وهذا عمي، فقال يا زيد: هذا أبوك، وهذا عمك، وأنا من عرفت، فاختر من شئت منا، فدمعت عينا زيد وقال: ما أنا بمختارٍ عليك أحداً أبداً، أنت مني منزلة الوالد والعم.
فقال له أبوه وعمه: ويحك يا زيد، أتختار العبودية على الحرية؟ فقال زيد: لقد رأيت من هذا الرجل من الإحسان، ما يجعلني لا استيطع فرقه وما أنا بمختار عليه أحداً أبداً.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس وقال: اشهدوا أنّ زيداً ابني أرثه، ويرثني.. فطابت نفس أبيه وعمه لما رأوا من كرامة زيد عليه صلى الله عليه وسلم. فلم يزل في الجاهلية يدعى (زيد بن محمد) حتى نزل القرآن الكريم. {ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله} فدُعي زيد بن حارثة. ونزل قوله تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين...} [الأحزاب: 40] الآية.
وانتهى بذلك حكم التبني. وبطلت تلك البدعة المستحدثة بتشريع الإسلام الخالد.


{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)}
[2] الإرث بقرابة الرحم:
التحليل اللفظي:
{النبي أولى}: الإخبار بلفظ النبوّة مشعر ب (التعظيم والتكريم) لمقامه الشريف صلى الله عليه وسلم وكلُّ ما ورد من الخطاب، أو الإخبار بلفظ النبوة، أو الرسالة فإنما هو لإظهار شرف النبي صلى الله عليه وسلم ورفع مقامه، ومعنى (أولى) أي أحق وأجدر وهو (أفعل تفضيل)، لبيان أن حق الرسول أعظم الحقوق فهو أولى بالمؤمن من نفسه، ومهما كانت ولاية الإنسان على نفسه عظيمة فولايته صلى الله عليه وسلم عليها أعظم، وحكمه أنفذ، وحقه ألزم.
{وأزواجه أمهاتهم}: أي منزّلات منزلة الأمهات في وجوب الاحترام والتعظيم وحرمة النكاح أما فيما عدا ذلك من الأمور كالنظير إليهن، والخلوة بهن، وإرثهن فهنَّ كالأجنبيات.
قال (ابن العربي): ولسن لهم بأمهات، ولكن أنزلن منزلتهن في الحرمة، وكلّ ذلك تكرمة للنبي صلى الله عليه وسلم وحفظاً لقلبه من التأذي بالغيْرة، وذلك من خصوصياته صلى الله عليه وسلم.
{وَأُوْلُو الأرحام}: أي أهل القرابة وأصحاب الأرحام. والأرحام جمع رَحِم وهو في الأصل مكان تكوّن الجنين في بطن أمّه ثم أطلق على القرابة.
ومعنى الآية: أهل القرابة مطلقاً أحق بإرث قريبهم من المؤمنين والمهاجرين لأنّ لهم صلة القرابة به، وقوله تعالى: {مِنَ المؤمنين والمهاجرين} متعلّق (بأولى) أي أحق بالإرث من المؤمنين والمهاجرين، وليست متعلقة (بأولو الأرحام) نبَه عليه ابن العربي والقرطبي.
{أولى بِبَعْضٍ}: أي في التوارث، وقد كان الإرث في صدر الإسلام بالهجرة والمؤاخاة في الدين، فنسخ الله ذلك وجعل التوارث بالنسب والقرابة، روي عن الزبير رضي الله عنه أنه قال: لمّا قدمنا معشرَ قريش المدينة، قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فآخيناهم فأورثونا وأورثناهم، فآخى أبو بكر (خارجة بن زيد) وآخيتُ (كعب بن مالك) فوالله لو قد مات عن الدنيا ما ورثه غيري حتى أنزل الله: {وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كتاب الله} فرجعنا إلى موارثنا.
{فِي كتاب الله}: المراد بالكتاب هنا (القرآن العظيم) أي فيما أنزله في القرآن من أحكام المواريث وقيل: المراد به (اللوح المحفوظ)، والقول الأول أظهر وأرجح.
{أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً}: المراد بالأولياء هنا هم (المؤمنون والمهاجرون) المذكورون في أول الآية والمراد بالمعروف (الوصية) والاستثناء في الآية هو (استثناء منقطع) على الرأي الراجح، ويصبح معنى الآية: أولو الأرحام أحق بالإرث من غيرهم فلا تورّثوا غير ذي رحم لكن فعلكم إلى أوليائكم من المؤمنين والمهاجرين الأجانب بأن توصوا لهم فإنّ ذلك جائز بل هم أحق بالوصية من ذوي الأرحام الوراثين.
{مَسْطُوراً}: أي مثبتاً بالأسطار في القرآن الكريم، أو حقاً مثبتاً عند الله تعالى لا يُمْحَى.
المعنى الإجمالي:
أخبر الباري تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن مقام النبي الرفيع، وشرفه السامي فبيّن أنه أحق بالمؤمنين من أنفسهم، وأن حقه أعظم من حقوق أنفسهم عليهم، وأن أمره ينبغي أن يقدّم على كل أمر، وحبّه ينبغي أن يفوق كل حبّ، فلا يُعصى له أمر، ولا يُخالف في صغيرة أو كبيرة، لأنّ ذلك من مقتضى ولايته العامّة عليهم، فإذا دعاهم إلى الجهاد عليهم أن يلبّوا أمره مسرعين ولا ينتظروا أمر والد أو والدة، فإنه صلوات الله عليه بمنزلة الوالد لهم، لا يريد لهم إلا الخير، ولا يأمرهم إلا بما فيه خيرهم وصلاحهم وسعادتهم.
وكما شرّف الله رسوله الكريم فجعل حقه أعظم الحقوق كذلك فقد شرّف زوجات الرسول الطاهرات فجعلهن أمهات للمؤمنين فأوجب احترامهم وتعظيمهن، وحرّم نكاحهن على الرجال، إكراماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظاً لحرمته في حياته وبعد وفاته، وذلك من الخصوصيات التي خصّ الله تعالى بها رسوله الكريم، ثم بيّن تعالى أن ذوي الأرحام أحق بإرث بعضهم البعض من الغير، فالقريب النسيب أحق بميراث قريبه من الأجنبي البعيد إلا إذا أراد الإنسان الوصية فإنّ الأجنبي يكون أحق من القريب لأنه لا وصية لوارث، وهذا الحكم ألا وهو توريث القريب دون الأجنبي هو حكم الله العادل الذي أنزله في دستوره وكتابه المبين، وجعله حكماً لازماً مسطّراً لا يُمْحى، والله تعالى أعلم.
وجه الارتباط بالآيات السابقة:
في الآيات السابقة أمر الله المؤمنين بالتخلي عن التبني، كما أمر بدعوة الأبناء الأدعياء لآبائهم ونسبتهم إليهم، وقد كان الرسول الكريم متبنياً (زيد بن حارثة) فلما أمر بالتخلّي عنه وبدعوته إلى أبيه أصابت زيداً وحشة، فجاءت هذه الآية عقبها تسلية لزيد، ولبيان أن الرسول صلى الله عليه وسلم إن تخلّى عن أبوته فإلى الولاية العامة، والرأفة الشاملة التي تعم المسلمين جميعاً دون تفريق بين ابن من الصلب وغيره، لأن ولايته صلى الله عليه وسلم باقية دائمة، فالرسول أحق بالمؤمن من نفسه، وهو كذلك أحق من كل قريبٍ، فهو الآمر الناهي بما يحقق للناس السعادة، وهو (الأب الروحي) لكل مؤمن ومؤمنة، وزوجاته الطاهرات هن أمهات للمؤمنين، فلا ينبغي للمؤمن أن يحزن إن تخلّى النبي عن أبوّته من التبني لأن أبوّته الروحية باقية، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يجب على لامؤمنين أن يكون الرسول أحبّ إليهم من أنفسهم، وأن حكمه عليه السلام أنفذ من حكمها، وحقّه آثر لديهم من حقوقها وصدق عليه السلام حين قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبّ إليه من والده وولده والناس أحمعين».
اللهم ارزقنا محبته، وارزقنا اتباعه، واجعله شفيعاً لنا يوم الدين.
سبب النزول:
1- روى المفسّرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد غزوة تبوك أمر الناس بالتجهيز والخروج، فقال أناسٌ منهم: نستأذن آباءنا وأمهاتنا، فأنزل الله تعالى فيهم: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ}.
2- وروى القرطبي في تفسيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرته جنازة سأل هل على صاحبها دين؟ فإن قالوا: لا، صلى عليها، وإن قالوا نعم قال: صلوا على صاحبكم، قال: فلما فتح الله عليه الفتوح قال صلى الله عليه وسلم: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرءوا إن شئتم: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فأيما مؤمن ترك مالاً ضويق العصبة فيه، وإن ترك ديناً، أو ضياعاً (عيالاً ضياعاً) فلياتني فأنا مولاه».
قال ابن العربي: فانقلبت الآن الحالُ بسبب الذنوب. فإن تركوا مالاً ضويق العصبة فيه، وإن تركوا ضياعاً أُسْلِموا إليه.. فهذا تفسير الولاية المذكورة في هذه الآية بتفسير النبي صلى الله عليه وسلم وتبيينه، ولا عطر بعد عروس.
ملاحظة: الأول هو السبب والثاني أي ما رواه البخاري هو تفسير لمعنى الولاية فتنبّه.
لطائف التفسير:
اللطيفة الأولى: لم يذكر في الآية الكريمة ما تكون في الأولوية بل أطلقت إطلاقاً ليفيد ذلك أولويته صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، ثم إنه ما دام أولى من النفس فهو أولى من جميع الناس بالطريق الأولى.
اللطيفة الثانية: ذكر الله تعالى أن أزواج النبي هنّ (أمهات المؤمنين) فيكون النبي صلى الله عليه وسلم على هذا هو الأب للمؤمنين وقد جاء في مصحف أبيّ بن كعب (وهو أب لهم) وقد سمع عمر هذه القراءة فأنكرها وقال: حكّها يا غلام (أي أمحها) فقال ابن عباس إنها في مصحف أبيّ، فذهب إليه عمر فسأله فقال له أبيّ: إنه كان يلهيني القرآن، ويلهيك الصفق بالأسواق.
وأمّا قوله تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} ففيه تشبيه يسمى (التشبيه البليغ) فقد حذف منه وجه الشبه وأداة الشبه وأصل الكلام: أزواجه مثل أمهاتهم في وجوب الاحترام والتعظيم وحرمة النكاح، وهذا كما تقول: محمد بحر أي أنه كالبحر في الجود والعطاء.
اللطيفة الثالثة: في قوله تعالى: {بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} مجاز بالحذف تقدير الكلام: أولى بميراث بعضٍ أو بنفع بعض كما قال الألوسي، وإنما يفهم تخصيص الأولوية هنا بالميراث من سياق الكلام إذ المسلمون جميعاً بعضهم أولى ببعض في التناصر والتراحم، يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم كما ورد في الحديث الشريف؛ فلا تكون الأولوية بين أولى الأرحام إلا بالإرث إذ لا وجه لتخصيصهم بالنصرة أو الجماعة أو التعاون فإن ذلك واجب لجميع المسلمين.
تنبيه:
جمهور المفسرين على أن (مِنْ) في قوله تعالى: {مِنَ المؤمنين والمهاجرين} هي (ابتدائية) وليست (بيانية) وأنّ المفضل عليه هم (المؤمنون والمهاجرون) والمفضّل هم {وَأُوْلُو الأرحام} كما تقول: زيد أفضل من عمرو، فالمفضّل زيد والمفضّل عليه هو عمرو، ويكون المعنى كما أسلفنا (أولو الأرحام أولى بالإرث من المؤمنين والمهاجرين).
وأجاز الزمخشري أن تكون (مِنْ) (بيانية) ويكون المعنى: أولو الأرحام أي الأقرباء من المؤمنين والمهاجرين أحق بميراث بعضهم بعضاً من الأجانب، وقد ردّ هذا القول (ابن العربي) في كتابه أحكام القرآن، وقال ما نصه: إن حرف الجر يتعلق (بأوْلى) لما فيه من معنى الفعل لا بقوله (أولو الأرحام) بإجماع لأن ذلك كان يوجب تخصيصها ببعض المؤمنين ولا خلاف في عمومها، وهذا حلّ إشكالها.
وجوه القراءات:
قرأ الجمهور: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ وأزواجه أمهاتهم}.
قال أبو السعود: وقُرئ: {وأزواجُه أمّهاتُهم وهو أبٌ لهم} أي في الدين، فإنّ كلّ نبيّ أب لأمته من حيث إنه أصل فيما به الحياة الأبدية، ولذلك صار المؤمنون إخوة.
أقول: هذه القراءة تحمل على أنها تفسير لقوله تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} وهي قراءة عبد الله وكذلك في مصحف (أبيّ بن كعب) فإذا كان أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، فهو عليه السلام أبٌ للمؤمنين، ولا شك أن الأب الروحي أعظم قدراً من الأب الجسدي، وقد قال مجاهد: كل نبيِّ أبٌ لأمته، يعني في الدين.
وجوه الإعراب:
أولاً: قوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين} النبيّ مبتدأ و(أولى) خبر والجار والمجرور متعلق ب (أولى) لأن أفعل التفضيل يعمل عمل الفعل.
ثانياً: قوله تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} مبتدأ وخبر، على حدّ قولهم: أبو يوسف أبو حنيفة، أي يقوم مقامه ويسدّ مسدّه، والمعنى: إنهن بمنزلة الأم في التحريم، فلا يجوز لأحدٍ أن يتزوج بهنّ، احتراماً للنبي عليه السلام. أفاده ابن الأنباري.
ثالثاً: قوله تعالى: {إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً} الاستثناء هنا يحتمل أن يكون متصلاً، ويحتمل أن يكون منقطعاً.
فعلى الأول: يكون استثناءً من أعم الأحوال، ويكون المعنى: إن أولى الأرحام أولى بجميع وجوه النفع من غيرهم من المؤمنين والمهاجرين في جميع الأحوال. إلاّ أن يكون لكم في هؤلاء وصيٌ تريدون أن توصوا إليه فذلك جائز.
وعلى الثاني: يكون تخصيص الأولوية بالميراث، ويكون المعنى: أولو الأرحام أولى بميراث بعضهم بعضاً، لكن إذا أسديتم إلى أوليائكم معروفاً فذلك جائز، بل هم أحق بالوصية من ذوي الأرحام، وهذا الوجه اختاره ابن الأنباري وغيره من العلماء.
قال ابن الجوزي: وهذا الاستثناء ليس من الأول أي أنه ليس متصلاً بل هو منقطع والمعنى: لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفاً جائز، فالمعروف هاهنا الوصية.
الأحكام الشرعية:
الحكم الأول: هل يجب على الإمام قضاء دين الفقراء من المسلمين؟
قال بعض أهل العلم إنه يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال ديون الفقراء اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد قال في الحديث الشريف: «وإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه»
. أي فعليّ قضاء دينه ورعاية أولاده، والإمام خليفة عن رسول الله يجب عليه قضاء ديون الفقراء من المسلمين. ولا شك أنّ هذا استنباط دقيق فعلى الدولة أن ترعى أمور الفقراء وتكفل مصالح الناس، وترعى شؤونهم وذريتهم.
الحكم الثاني: هل زوجات الرسول أمهات للمؤمنين والمؤمنات؟
قال (ابن العربي): اختلف الناس هل هنّ أمهات الرجال والنساء؟ أم هنّ أمهات الرجال؟ خاصة على قولين:
أ- فقيل إنه عام في الرجال والنساء.
ب- وقيل إنه خاص بالرجال فقط.
قال ابن العربي: وهو الصحيح، لأن المقصود بذلك إنزالهن منزلة أمهاتهم في الحرمة، والحلُّ غير متوقع بين النساء فلا يحجبن بينهن بحرمة، وقد روي أن امرأةً قالت لعائشة: يا أماه، فقالت لها: لستُ لك بأم إنما أنا أمّ رجالكم.
قال القرطبي: قلتُ لا فائدة في اختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء، والذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء، تعظيماً لحقهن على الرجال والنساء، يدل على صدر الآية: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة، ويدل عليه قراءة أبيّ (وهو أب لهم) أقول: لعلّ الأرجح ما ذهب إليه القرطبي والله أعلم.
الحكم الثالث: هل تثبت الحرمة لجميع زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم؟
استدل العلماء على حرمة نكاح زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الآية الكريمة وبقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً} [الأحزاب: 53] واختلف العلماء هل الحرمة ثابتة لكل زوجاته الطاهرات سواءً من طلّقت منهن ومن لم تطلّق؟ وسواءً أكانت مدخولاً بها أو غير مدخول بها؟ على مذهبين:
أ- ذهب الشافعي رحمه الله إلى أن المراد من أزواجه كل من أطلق عليها أنها زوجة له صلى الله عليه وسلم سواءً طلَّقها أم لم يطلقها فيثبت الحكم لكلهن، وهذا ظاهر الآية الكريمة.
ب- وصحّح إمام الحرمين قصر التحريم على المدخول بها فقط، واستدل بما روي أنّ (الأشعث بن قيس) نكح المستعيذة في زمن عمر رضي الله عنه، فهمّ برجمه فأخبره أنها لم تكن مدخولاً بها، فكفّ عنه، وفي رواية: أنه همّ برجمها فقالت: ولمَ هذا؟ وما ضُرِبَ عليّ حجاب، ولا سُمّيتُ للمسلمين أماً، فكفّ عنها.
الترجيح: والصحيح ما ذهب إليه إمام الحرمين من أنّ الحرمة قاصرة على المدخول بها فقط، فلو طلَّقها بعد الدخول تثبت لها الحرمة كذلك، أمّا مجرد العقد عليها فلا يوجب الحرمة كما هو الحال في شأن (المستعيذة) وهي التي تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أراد الدخول عليها قالت: أعوذ بالله منك، فقال: قد عذتِ بمَعاذ فألحقها بأهلها، وكانت تقول: أنا الشقية، لأنها حرمت من ذلك الشرف الرفيع، شرف الانتساب إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
الحكم الرابع: هل يورّثُ ذوو الأرحام؟
المراد من قوله تعالى: {وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} أنّ أصحاب القرابة مطلقاً أولى بميراث بعض الأجانب، وهذه الآية نسخت التوارث الذي كان بين المسلمين بسبب (المؤاخاة والنصرة) أو بسبب الهجرة، فقد كان المهاجريُّ يرث أخاه الأنصاري بعد موته، ثم نسخ الحكم وأصبح التوارث بالقرابة النسبية.
وقد أخذ بعض الفقهاء من هذه الآية الكريمة أن (ذوي الأرحام)- وهم الذين ليسوا بأصحاب فروض ولا عصبات- كالخال والعمة وأولاد البنات وغيرهم أحق بالإرث من بيت مال المسلمين، وهذا هو مذهب (الحنفية) وجمهور الفقهاء، ودليلهم في ذلك أنّ الآية اقتضت بأنّ ذوي القرابة مطلقاً (سواء كانوا أصحاب فروض أم عصبات أم أصحاب قرابة رحمية) أحقُّ بالإرث من الأجانب، فالآية تشمل كل قريب للميت. كما استدلوا بأنّ بيت مال المسلمين تربطه مع الميت رابطة الأخوَّة في الدين، وذوو الأرحام تربطهم معه أخوًّة الدين مع شيء آخر وهو (قرابة الرحم) فأصبح لهم قرابتان: قرابة الدين، وقرابة الرحم، وهذا يشبه ما إذا مات إنسان عن أخ شقيق، وأخ لأب فإنّ المال كله يكون للشقيق لأنّ قرابته من جهتين: من جهة الأب ومن جهة الأم فتكون أقوى من قرابة الأخ لأب لأنه من جهة واحدة فكذلك (ذوو الأرحام). وذهب الإمام الشافعي رحمه الله إلى عدم توريث (ذوي الأرحام) وقال: إن بيت مال المسلمين أحق بالإرث فيما إذا لم يكن للميت عصبة أو أصحاب فروض أو من يردّ عليه منهم فيصبح المال من نصيب المسلمين ويعطى لبيت المال، وحجته في ذلك أن التوريث لا بدّ فيه من نصّ في كتابٍ أو سنّة ولا يمكن أن يكون بالعقل أو الرأي ولم يرد في توريث (ذوي الأرحام) نصّ قاطع، فلا يورّثون إذاً ويكون الإرث لبيت المال.
الترجيح: والصحيح هو ما ذهب إليه الحنفية وجمهور الفقهاء من توريث ذووي الأرحام فهو الظاهر من النصوص الشرعية في الكتاب والسنّة. والبحث مفصّل في علم الفرائض فليرجع إليه.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة:
أولاً: ولاية النبي صلى الله عليه وسلم العامّة على جميع المؤمنين.
ثانياً: حرمة نكاح زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيماً لشأنه.
ثالثاً: تكريم النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته واجب على المسلمين.
رابعاً: نسخ التوارث بالمؤاخاة والنصرة وجعله بالقرابة النسبية.
خامساً: أحكام الشريعة الغراء منزلة من عند الله مسطّرة في القرآن العظيم.
سادساً: توريث ذوي الأرحام مقدم على ميراث بيت مال المسلمين على الصحيح.
خاتمة البحث:
حكمة التشريع:
من حكمة الباري جلّ وعلا أن ربط بين أفراد المجتمع الإسلامي برباط (العقيدة والدين...) وعزّز تلك الروابط ب (الأخوّة الإسلامية) التي هي مظهر القوة والعزة. وسبيل السعادة والنجاح.
وقد كان التوارث في صدر الإسلام بسبب تلك الرابطة (رابطة العقيدة) و(رابطة الدين) وبسبب الهجرة والنصرة، فكان الأنصاري يرث أخاه المهاجري، ويرث المهاجري أخاه الأنصاري دون ذوي قرباه، حتى توثّقت بين المؤمنين روابط العقيدة والإيمان، وتمثّلت فيهم أخوة الإسلام: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وأصبحت لحمة الإسلام أقوى من لحمة النسب، ورابطة الدين أقوى من رابطة الدم، وأصبح المسلمون كالجسد الواحد، وكالبنيان يشدّ بعضُه بعضاً.
ثم نسخ الله تبارك وتعالى التوارث بين المؤمنين بسبب الدين، وبسبب الهجرة والنصرة، وجعل التوارث بسبب القرابة والنسب، وذلك تمشياً مع نظرة الإسلام المثلى، في توطيد دعائم الأسرة، لأنه أساس المجتمع الفاضل. فإذا تمكنت العلاقات الأخوية بين أفراد الأسرة تقوّي بنيان المجتمع. وإذا انحلّت هذه العلاقات، تزعزع المجتمع وانحلت أواصره.
ولكنّ الله جل ثناؤه لم يورث كلّ قريب، بل أوجب أن تكون مع القرابة رابطة الإيمان. فالابن إذا كان كافراً لا يرث أباه، والأخ غير المسلم لا يرث أخاه، وبذلك جمع الإسلام بين (رابطة الإيمان) و(رابطة النسب) وجعل القرابة غير نافعة إلا مع الإيمان. فحفظ للأسرة كرامتها، وللدين حرمته، وللقريب حقوقه، ونزل القرآن الكريم بحكمه العادل: {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75] وبقوله جل ثناؤه: {وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كتاب الله مِنَ المؤمنين والمهاجرين...}.
وبذلك نُسِخَ الإرث بسبب الهجرة والنصرة، وأصبح بسبب النسب، بعد أن تقوّى الإيمان وتوطّدت دعائمه.
روى الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ}... فأيُّما مؤمنٍ ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا. فمن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه».


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)}
[3] الطلاق قبل المساس:
التحليل اللفظي:
{نَكَحْتُمُ}: يطلق النكاح تارة ويراد به العقد، ويطلق تارةً ويراد به الوطء. والمراد به هنا العقد باتفاق العلماء بدليل قوله تعالى: {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} وأصل النكاح في اللغة: الضمّ والجمع قال الشاعر:
ضممتُ إلى صدري معطّرَ صَدْرها *** كما نَكَحَتْ أُم الغلام صَبَّيها
قال القرطبي: النكاح حقيقة في الوطء. وتسمية العقد نكاحاً لملابسته له من حيث أنه طريق إليه. ونظيره تسميتهم الخمر إثماً لأنها سبب في اقتراف الإثم، ولم يرد لفظ النكاح في القرآن إلا في معنى العقد لأنه في معنى العقد لأنه في معنى الوطء، وهو من آداب القرآن الكناية عنه بلفظ (الملامسة، والمماسّة، والقربان، والتغشي، والإتيان).
{المؤمنات}: فيه إشارة إلى أنه ينبغي أن يقع اختيار الأزواج على المؤمنات. وليس لفظ الإيمان في قوله: (المؤمنات) للقيد أو الشرط بل هو لمراعاة الغالب من حال المؤمنين أنهم لا يتزوجون إلا بمؤمنات، وهذا مما اتفق عليه الفقهاء ولو كان للقيد أو الشرط لكان حكم (الكتابيات) مختلفاً عن حكم المؤمنات مع أن الحكم واحد.
قال الألوسي: (وتخصيص المؤمنات مع عموم الحكم للكتابيات للتنبيه على أن المؤمن من شأنه أن يتخيّر لنطفته ولا ينكح إلا مؤمنة، وحاصله أنه لبيان الأحرى والأليق).
{تَمَسُّوهُنَّ}: المراد بالمسّ هنا (الجماع) بإجماع الفقهاء. وقد اشتهرت الكناية به وبلفظ الملامسة والمماسّة ونحوها في لسان الشرع عن الجماع، وهو كما أسلفنا من آداب القرآن لأن القرآن العظيم يتحاشى ذكر الألفاظ الفاحشة فيكني عنها مثل قوله تعالى: {أَوْ لامستم النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً} [النساء: 43] وقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} [المجادلة: 3] وهكذا كنّى عن الجماع باللمس أو المماسّة، ولو كان المراد في الآية حقيقة المسّ باليد وهي إلصاق اليد بالجسم للزمت العدّة فيما لو طلّقها بعد أمسّها بيده من غير جماع ولا خلوة، ولم يقل بذلك أحد من الفقهاء.
{عِدَّةٍ}: العدّة في اللغة مأخوذة من العَدّ لأن المرأة تعدّ الأيام التي تجلسها بعد طلاق زوجها لها أو وفاته، وهي شرعاً: المدة التي تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها، أو للتعبد، أو للتفجع على زوج مات.
{تَعْتَدُّونَهَا}: أي تعدّونها عليهن، أو تستوفون عددها عليهن، يقال: عدّ الدراهم فاعتدّها أي استوفى عددها ومثله قولك: كلته فاكنلته، ووزنته فاتّزنته.
{فَمَتِّعُوهُنَّ}: أي اعطوهن المُتْعةُ في الأصل ما يَمتّع به من مالٍ أو ثياب، وقد حدّدها بعض الفقهاء بأنها (قميص وخمار ومِلْحَفةً) والصحيح أن المتعة لا تختص بالكسوة بل هي في لسان الشرع: كل ما يعطيه الزوج لمطلقته ارضاءً لها وتخفيفاً من شدة وقع الطلاق عليها.
{وَسَرِّحُوهُنَّ}: أي طلقوهن، قال القرطبي: التسريح إرسال الشيء ومنه تسريح الشعر ليخلص البعض من البعض، وسرّح الماشية: أرسلها.
وقال الألوسي: أصل التسريح أن ترعى الإبل السّرْح وهو شجر له ثمره ثم جعل لكل إرسال في الرعي ثم لكل إرسال وإخراج. والمراد هنا تركهن وعدم حبسهن في منزل الزوجية.
{سَرَاحاً جَمِيلاً}: أي طلاقاً بالمعروف فهو مثل قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وقوله كذلك: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} [البقرة: 229] والسراح الجميل يكون بالتلطف مع المطلقة بالقول، وترك أذاها، وعدم حرمانها مما وجب لها من حقوق، والإحسان إليها.
المعنى الإجمالي:
يخاطب الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين فيقول: يا أيها الذين آمنوا إذا عقدتم عقد الزواج على المؤمنات وتزوجتموهن، ثم طلقتموهن من قبل أن تقربوهنّ فليس لكم عليهن حق في العدّة تستوفون عددها عليهنّ لأنكم طلقتموهن قبل المِساس وهذا لا يستلزم احتباس المرأة في البيت وجلوسها في العدّة من أجل صيانة تسبكم لأنكم لم تعاشروهن فليس هناك احتمال للحمل، فالواجب عليكم أن تمتعوهن بدفع ما تطيب نفوسكم لأنكم لم تعاشروهن فليس هناك احتمال للحمل، فالواجب عليكم أن تمتعوهن بدفع ما تطيب نفوسكم لهن. وتكرموهنّ بشيءٍ من المال أو الكسوة تطييباً لخاطرهن وتخفيفاً لشدة وقع الطلاق عليهن وأن تفارقوهنّ بالمعروف فلا تؤذوهن بقول أو عمل، ولا تحرموهن مما وجب لهن عليكم من حقوق. فإنّ ذلك من مقتضى إيمانكم وطاعتكم لله عز وجلّ والله تعالى أعلم.
وجه الارتباط بالآيات السابقة:
كان الحديث في الآيات السابقة عن نساء النبي صلى الله عليه وسلم وما ينبغي أن يكنّ عليه من طاعة لله ورسوله، وزهدٍ في الدنيا، وطهارة وكمال، لأنهن لسن كبقية النساء، والله تبارك وتعالى يريد لهنّ أن يحافظن على ذلك الشرف الرفيع وهو انتسابهن إلى رسول الله حيث أصبحن أمهاتٍ للمؤمنين وزوجات الرسول الطاهرات، وقد أعقب ذلك بذكر قصة (زيد بن حارثة) وتطليقه (زينب) رضي الله عنها التي تزوجها الرسول بعد ذلك بأمرٍ من الله سبحانه وتعالى وذلك لحكمة جليلة وهي إبطال (بدعة التبني) ثم جاء الخطاب هنا للمؤمنين بحكم الزوجة تطلّق قبل المساس وكيف يجب على المؤمنين أن يفعلوا فيما إذا وقع منهم الطلاق قبل المعاشرة، وما هي الأحكام الشرعية التي ينبغي عليهم أن يتمسكوا بها في مثل هذه الأحوال، فهذا وجه الارتباط والله أعلم.
لطائف التفسير:
اللطيفة الأولى: قوله تعالى: {نَكَحْتُمُ المؤمنات} فيه إشارة إلى أن المؤمن ينبغي أن يتخيّر لنطفته وأن ينكح المؤمنة الطاهرة، لأن إيمانها يجعلها تحافظ على عفتها ويحجزها عن الوقوع في الفاحشة والشرّ. فتصون عرض زوجها وتحفظه في حضرته وغيبته وصدق الله: {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 221].
اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} التعبير (بثم) دون الفاء أو الواو، والعطف بها (التراخي) للإشارة إلى أن الطلاق ينبغي أن يكون بعد تريث وتفكير طويل، ولضرورة ملحّة لأن الطلاق من الأمور التي يبغضها الله حيث فيه هدم وتحطيم للحياة الزوجية ولهذا قال بعض الفقهاء: إن الآية ترشد إلى أن الأصل في الطلاق الحظر، وأنه لا يباح إلا إذا فسدت الحياة الزوجية، ولم تفلح وسائل الإصلاح بين الزوجين.
والحكم واحد لا يختلف فيمن تزوّج امرأة فطلّقها على الفور، أو طلّقها على التراخي. (انظر روح المعاني).
اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} كنّى بالمسّ عن الجماع وهذا- كما أسلفنا- أدب من آداب القرآن، ينبغي على المسلم أن يتأدب به فيكنى عن كل شيء قبيح أو فاحش.
وما أجمل أدب الرسول حين قال للمرأة المطلّقة المبتوتة التي جاءت تستأذنه في العودة إلى زوجها الأول: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك». اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} في إسناد العدّة إلى الرجال إشارة إلى أنها حقّ للمطلّق، فوجوب العدّة على المرأة من أجل الحفاظ على نسب الإنسان فإنّ الرجل يغار على ولده، ويهمه ألا يُسْقَى زرعُه بماء غيره، ولكنّها على المشهور ليست حقاً خالصاً للعبد، بل تعلّق بها حقّ الشارع أيضاً، فإن منع الفساد باختلاط الانساب من حق الشارع.
والصحيح أنّ وجوب العدة فيها (حق الله، وحق العبد)؛ ولهذا قال الفقهاء العدّةُ تجب لحكم عديدة: لمعرفة (براءة الرحم، وللتعبد، أو للتفجع) فتدبره.
وجوه القراءات:
1- قرأ الجمهور: {من قبل أن تمسّوهنّ} أي تقربوهن. وقرأ حمزة والكسائي: {من قبل أن تُمَاسّوهنّ} بزيادة ألف، والمعنى واحد.
2- قرأ الجمهور: {من عدّة تَعْتَدّونها} بتشديد الدال من العدّ أي تستوفون عددها، من قولك: عدّ الدراهم فاعتدّها أي استوفى عددها، وقرأ ابن كثير وغيره بتخفيف الدال: {تَعْتَدُونها} قال الزمخشري: أي تعتدون فيها كقوله: ويوماً شهدناه. والمراد بالاعتداء ما في قوله تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ} [البقرة: 231].
قال أبو حيان: المعنى تعتدون عليهن فيها، فلما حذف حرف الجر وصل الفعل إلى ضمير العدّة كقوله: ويوماً شهدناه سليماً وعامراً، أي شهدنا فيه.
وجوه الإعراب:
أولاً: قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} الآية.
(ما) نافية حجازية تعمل عمل ليس، و(لكم) جار ومجرور خبرها مقدم. و(من) صلة تأدباً. و(عدة) اسم ليس مؤخر مجرور لفظاً مرفوع محلاً. قال ابن مالك:
وزيد في نفيٍ وشبهه فجّر *** نكرة كما لباغٍ من مفر
والمعنى: ليس لكم عليهن عدّة توجبونها عليهن.
ثانياً: قوله تعالى: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً}.
(سراحاً) مفعول مطلق و(جميلاً) صفة له منصوب.
الأحكام الشرعية:
الحكم الأول: هل يقع الطلاق قبل النكاح؟
أجمع الفقهاء على أن الطلاق لا يقع قبل النكاح استدلالاً بقوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} فقد رتّب الطلاق على النكاح وعطفه (بثمّ) التي تفيد الترتيب مع التراخي، واستدلالاً بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا طلاق قبل النكاح» واختلفوا فيمن علّق الطلاق مثل قوله: (إن تزوجت فلانة فهي طالق)، أو قوله: (كل امرأة أتزوجها فهي طالق) على مذهبين: أ- مذهب الشافعي وأحمد: أنه لا يقع الطلاق وهو مروي عن (ابن عباس) رضي الله عنهما.
ب- مذهب أبي حنيفة ومالك: أنه يقع الطلاق بعد عقد الزواج وهو مروي عن (ابن مسعود) رضي الله عنه.
أدلة الشافعية والحنابلة:
أ- استدل الإمامان الشافعي وأحمد رحمهما الله على أن التعليق مثل التنجيز، طلاقٌ قبل النكاح، وإذا طلّق الإنسان امرأة، لا يملكها (أنت طالق) فإنه لا يقع باتفاق فكذا المعلّق من الطلاق لا يقع به طلاق.
ب- واستدلوا بحديث: «لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لا يملك».
وهذا الرأي ذهب إليه الجمهور من الصحابة والتابعين وقد عدّ البخاري منهم أربعة وعشرين في باب (لا طلاق قبل النكاح) وهو منقول عن (ابن عباس) رحمه الله، فقد روي أنه سئل عن ذلك أي (عن الطلاق المعلَّق) فقال: هو ليس بشيء. فقيل له إن (ابن مسعود) يخالفك يقول: إذا طلّق ما لم ينكح فهو جائز. فقال: رحم الله أبا عبد الرحمن، لو كان كما قال لقال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن) ولكن إنما قال: {إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ}.
أدلة المالكية والحنفية:
واستدل الحنفية والمالكية بأنّ الطلاق يعتمد الملك، أو الإضافة إلى الملك، لكنه في حالة الإضافة إلى الملك يبقى معلّقاً حتى يحصل شرطه، فإذا قال للأجنبية (إن تزوجتك فأنت طالق) كان هذا تعليقاً صحيحاً، ولا يقع الطلاق به الآن إنما يقع بعد أن يتزوجها، فهو مثل قوله: (إن دخلتِ الدار فأنت طالق) لا يقع الطلاق إلا بعد الدخول، فكذا هنا لا يقع الطلاق إلاّ بعد أن يعقد عقد الزواج عليها، فيكون الطلاق واقعاً في الملك بالضرورة فكأنه أوقعه عليها حينذاك، وقالوا: الفرق واضح بين تنجيز الطلاق على الأجنبية وبين تعليق طلاقها على النكاح فإن قول الرجل لامرأةٍ أجنبية (هي طالق) كلام لغو، لأنها ليست زوجته وقد طلّق ما لم يملك فهو طلاق قبل النكاح لا يقع أصلاً. أما قوله: (إن تزوجت فلانة فهي طالق) فهو معلّق على الملك والفرق واضح بينهما. وهذا القول قال به جمع غفير من العلماء منهم (ابن مسعود) رضي الله عنه ودليله قوي وهو الأحوط كما نبّه عليه (ابن العربي) والجصاص.
والخلاصة فإنَّ الطلاق بعد النكاح يقع باتفاق الفقهاء، والطلاق المنجّز قبل النكاح لا يقع باتفاق، والطلاق المعلّق على النكاح يقع عند الحنفية والمالكية ولا يقع عند الشافعية والحنابلة، ولكل وجهة هو موليها والله تعالى أعلم.
الحكم الثاني: هل الخلوة الصحيحة توجب العدّة والمهر؟
ظاهر الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} الذي هو كناية عن الجماع أنَّ الخلوة ولو كانت صحيحة لا توجب ما يوجبه الجماع من العدّة والمهر، وهذا مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، ودليله: أن الله سبحانه وتعالى نفى وجوب العدّة إذا طلقت قبل الجماع، والخلوةُ ليست جماعاً فلا يجب بها العدّة ولا المهر.
وذهب الجمهور (المالكية والحنفية والحنابلة) إلى أن الخلوة كالجماع توجب المهر كاملاً، وتوجب العدّة.
1- واستدلوا بما رواه الدارقطني عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كشف خمار امرأةٍ ونظر إليها وجب الصَدَاق دخل بها أو لم يدخل».
ب- وروي عن عمر أنه قال: (إذا أغلق باباً وأرخى ستراً ورأى عورة فقد وجب الصَدَاق وعليها العدة ولها الميراث)
ج- وروي عن زُرَاة بن أبي أوفى أنه قال: (قضى الخلفاء الراشدون المهديُّون أنه إذا أرخى الستور، وأغلق الباب، فلها الصداق كاملاً وعليها العدّة دخل بها أو لم يدخل).
الترجيح: وأنت ترى أن أدلة الجمهور أقوى، وحجتهم أظهر، إذ يحتمل أن يبقى الرجل مع زوجته عاماً كاملاً، يبيت معها في فراش واحد، ولكنَّه لم يجامعها طيلة هذه المدة فلا بدَّ أن نوجب عليه دفع المهر كاملاً، ونلزمها بالعدّة وذلك اعتباراً بالخلوة الصحيحة ودفعاً للنزاع والخلاف.
وقد اختلف القائلون بوجوب العدّة بالخلوة الصحيحة فمنهم من يقول: إنها واجبة (يانةً، وقضاءً) ومنهم من يقول بوجوبها قضاءً لا ديانةً لأن القاضي إنما يحكم بالظاهر والرأي الأول أصحّ.
الحكم الثالث: ما هو حكم المطلّقة رجعياً هل تستأنف العدّة إذا راجعها زوجها ثم طلقها قبل المساس؟
اختلف الفقهاء في المرأة المطلّقة رجعياً فيما إذا طلقها زوجها بعد المراجعة قبل أن يمسّها على أقوال:
أ- مذهب الظاهرية: أنه لا عدة عليها جديدة والعدة الأولى قد بطلت بالطلاق الثاني، فلا يجب عليه أن تكمّل العدة الأولى. (وهذا رأي ضعيف)
ب- مذهب الشافعي: تبني على عدة الطلاق الأول وليس عليها أن تستأنف عدة جديدة.
ح- مذهب مالك وأبي حنيفة: عليها أن تستأنف عدة جديدة، قال القرطبي: وعلى هذا أكثر أهل العلم.
دليل الظاهرية: استدل داود الظاهري ومن قال بقوله أنّ المطلّقة الرجعية إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدتها ثم فارقها قبل أن يمسّها، أنه ليس عليه أن تتم عدتها ولا عدة مستقبلة، لأنها مطلّقة قبل الدخول بها أخذاً بظاهر الآية.
دليل الشافعي: استدل داود الظاهري ومن قال بقوله أنّ المطلّقة الرجعية إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدتها ثم فارقها قبل أن يمسّها، أنه ليس عليها أن تتم عدتها ولا عدة مستقبلة، لأنها مطلّقة قبل الدخول بها أخذاً بظاهر الآية.
دليل الشافعي: استدل الشافعي رحمه الله بأن المطلّقة تبني على عدتها الأولى وليس عليها أن تستأنف عدة جديدة، بأنّ الطلاق الثاني لا عدة له لأنه طلاق قبل المساس، ولكن لا ينبغي أن يبطل ما وجب بالطلاق الأول فإنه طلاق بعد دخول يجب أن تراعى فيه حكمة الشارع في إيجاب العدة. فطلاقه لها قبل أن يمسّها في حكم من طلّقها في عدتها قبل أن يراجعها، ومن طلّق امرأته في كل ظهر مرةً بنَتْ ولم تستأنف.
دليل المالكية والحنفية: قالوا إن عليها أن تستأنف عدةً جديدة، لأن الطلاق الثاني وإن كان لم يفصل بينه وبين الرجعة مسّ ولا خلوة، لكنه لا يصدق عليه أنه قد حصل قبل الدخول على الإطلاق، إذا المفروض أن المرأة كان مدخولاً بها من قبل، فيجب عليها أن تستأنف عدةً كاملة لأنها في حكم الموطوءة.
قال القرطبي: نقلاً عن الإمام مالك: إنها تنشئ عدةً مستقبلة، وقد ظلم زوجُها نفسَه وأخطأ إن كان ارتجعها ولا حاجة له بها، وعلى هذا أكثر أهل العلم لأنها في حكم الزوجات المدخول بهنّ في النفقة والسكنى وغير ذلك، وهو قول جمهور فقهاء البصرة والكوفة ومكة والمدينة والشام.
الحكم الرابع: هل تجب المتعة لكل مطلّقة؟
ظاهر قوله تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ} إيجاب المتعة للمطلقة قبل الدخول سواءً فرض لها مهر أو لم يفرض لها مهر، ويقوّي هذا الظاهر قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين} [البقرة: 241] فقد أوجبت لكل مطلقة (المتعة) وقد اختلف الفقهاء في وجوب المتعة على أقوال:
أ- إنها واجبة لكل مطلّقة فرض لها مهر أم لم يفرض لها مهر عملاً بظاهر الآية وهو مذهب (الحسن البصري).
ب- إن المتعة واجبة للمطلّقة قبل الدخول التي لم يفرض لها مهر وهو مذهب (الحنفية والشافعية). وبهذا قال (ابن عباس) رضي الله عنهما. وأما التي فرض لها مهر فتكون المتعة لها مستحبة.
ح- إن المتعة مستحبة للجميع وليست واجبة لأحدٍ من النساء وهو مذهب (المالكية).
وسبب الخلاف بين الفقهاء في (وجوب لمتعة) أو استحبابها هو أنه قد ورد في القرآن الكريم آيات كريمة ظاهرها التعارض، فمنها ما يوجب المتعة على الإطلاق، ومنها ما يوجب المتعة عند عدم ذكر المهر المفروض لها، ومنها ما لم ينصّ على المتعة أصلاً فلهذا وقع الخلاف بين الفقهاء. أما الآيات الكريمة فهي آية الأحزاب: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} وآية البقرة [236]: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ مَتَاعاً بالمعروف حَقّاً عَلَى المحسنين} وآية البقرة [237] كذلك: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} الآية.
فالآية الأولى مطلقة. والثانية مقيّدة بقيدين (عدم المسّ، وعدم الفرض) وأول الآية هو قوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] الآية.
والثالثة أوجبت نصف المهر فقط ولم تذكر المتعة، فمن الفقهاء من جعل آية البقرة مخصّصة لآية الأحزاب ويكون المعنى (فمتعوهن إن لم يكن مفروضاً لهن المهر في النكاح) وبهذا التفسير قال (ابن عباس) ويؤيده أن المتعة إنما وجبت دفعاً لإيحاش الزوج لها بالطلاق، فإذا وجب للمطلّقة قبل الدخول نصف المهر كان ذلك جابراً للوحشة فلا تجبُ لها المتعة.
الترجيح: ويظهر من الأدلة أن حجة الفريق الثاني وهم (الحنفية والشافعية) أقوى وأظهر وهو مذهب ابن عباس وفيه جمع بين الأدلة والله أعلم.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة:
أولاً- على الإنسان أن يختار في الزواج المرأة المؤمنة الطاهرة.
ثانياً- الطلاق هدم للحياة الزوجية فلا يصح أن يقع إلا في الحالات الضرورية.
ثالثاً- لا تجب العدة بالإجماع إذا طلقت المرأة قبل الدخول بها.
رابعاً: على الزوج أن يجبر خاطر زوجته المطلّقة بالمتعة.
خامساً- حرمة إيذاء المطلّقة وتسريحها بالمعروف والإحسان.
خاتمة البحث:
حكمة التشريع:
شرع الله تعالى الزواج لبقاء النوع الإنساني، وعزّز من روابطه وأركانه وأحاط الأسرة بسياج مقدس من التكريم والتقدير. وأقام الحياة بين الزوجين على أساس التفاهم والتعاون والمحبّة والمودّة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].
وقد أباح الإسلام الطلاق في ظروف استثنائية ضرورية، وذلك ليخلّص الإنسان من شقاء محتّم، وينقذه من مشكلةٍ قد تحرمه السعادة، أو تكلفه حياته.
والطلاق: في الإسلام أبغض الحلال إلى الله، لأن فيه خراب البيوت، وضياع الأسرة. وتشريد الأولاد. ولكنّه ضرورة لا بدّ منها عند اللزوم، فلا بدّ أن تكون الأسباب فيه جليَّة. والدوافع قاهرة، وألاّ يكونه ثمة طريق إلى الخلاص من ذلك الشقاء إلاّ بالطلاق، وقد قيل في الأمثال: (آخر الدواء الكيّ).
وقد أرشد الإسلام إلى الاستعمال الحكيم لهذا العلاج، بألاّ يقدم عليه الإنسان إلاّ بعد درسٍ وتمحيص. وروّية وبصيرة. فإنّ الطلاق ما شرع إلاّ ليحقّق الطمأنينة والسعادة للإنسان. ويدفع عنه مرارة العيش، وقساوة الحياة. وإذا لم يستعمله المرء في الطريق المأمون انقلب إلى إعصارٍ مخرّب مدمّر، فحرم الأسرة الأمن والاستقرار. فهو إذاً سلاح ذو حدين: فإما أن يستعمله الإنسان فيما يجلب إليه الشقاء. أو يستعمله فيما يخلّصه من الشقاء.
وقد حكم الباري جلّ وعلا بأنّ من طلّق زوجه قبل المسيس. فليس له عليها حق أن يمنعها من الزواج. لأنها لا عدّة عليها. والعدّة إنما تجب لمعرفة براءة الرحم. صيانةً لحق الزوج. لئلا يختلط نسبه بنسب غيره، أو يُسقى زرعه بماء غيره... ولمّا كان هذا الطلاق قبل المعاشرة والاتصال الزوجي، إذاً فلا عدة ولا سبيل له عليها. فيجب أن يحسن معاملتها. بمنعها من الزوج {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً}.
وبذلك صان المولى جلّ وعلا كرامة المرأة، ودفع عنها عدوان الزوج وطغيانه، وحفظ لكلٍ حقّه، فلم يظلم المرأة، ولم يفرّط في حقّ الرجل، وفسح المجال لكل من الزوجين في الحياة السعيدة الكريمة.
فما أسمى تعاليم الإسلام؟ وما أعدل نظمه وأحكامه!!

1 | 2 | 3